الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتًا غير بيته: حييتم صباحًا وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عز وجل عن ذلك، وعلم ما هو الأحسن الأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك.قال الزمخشري: بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أين الأذن الواعية. {ذلكم خير لكم} أي: من تحية الجاهلية، ومن أن تدخلوا من غير استئذان. روي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن»، وقوله تعالى: {لعلكم تذكرون} متعلق بمحذوف أي: أنزل عليكم، وقيل: بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.{فإن لم تجدوا فيها} أي: البيوت {أحدًا} يأذن لكم في دخولها {فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم} أي: حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول فيها ليس الاطلاع على العورات فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي تطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلابد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب {وإن قيل لكم ارجعوا} أي: بعد الاستئذان {فارجعوا} أي: إذا كان في البيت أحد، وقال لكم: ارجعوا فارجعوا {هو} أي: الرجوع {أزكى} أي: أطهر وأصلح {لكم} من الوقوف على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصًا إذا كانوا ذوي مروءة مرتاضين للآداب الحسنة وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله تعالى: ما قرعت بابًا على عالم قط، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} الحجرات.وعن قتادة رحمه الله تعالى: إذا لم يؤذن له لا يقعد وراء الباب فإن للناس حاجات، وإن حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظرًا جاز، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن فيخرج الرجل فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخبرتني فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، فإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردودًا لما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم يفقؤوا عينه» وفي رواية للنسائي قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك جناح»، ولو عرض أمر في دار من حريق أو هدم أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن {والله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {بما تعملون} من الدخول بإذن وبغير إذن {عليم} فيجازيكم عليه.لما نزلت آية الاستئذان قالوا: يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها إنسان فأنزل اللّه تعالى: {ليس عليكم جناح} أي: إثم {أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة} أي: بغير استئذان منكم، وذلك كبيوت الخانات والربط المسبلة {فيها متاع} أي: منفعة {لكم} والمنفعة فيها بالنزول وأنواع المتاع والاتقاء من الحر والبرد ونحو ذلك، وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو المنفعة، وقال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت الأسواق إذن، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا جاء إلى حانوت السوقي يقول: السلام عليكم أدخل ثم يلج، وقال عطاء: هي البيوت الخربة والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها {والله يعلم ما تبدون} أي: تظهرون {وما تكتمون} أي: تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره، وفي ذلك وعيد من الله تعالى لمن دخل لفساد أو تطلع على عورات وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم سلموا على أنفسهم.والحكم السابع حكم النظر المذكور في قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} أي: عما لا يحل لهم نظره {ويحفظوا فروجهم} أي: عما لا يحل لهم فعله بها.تنبيه: من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه.فإن قيل: لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج؟أجيب: بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.فإن قيل: لم قدم غض البصر على حفظ الفرج؟أجيب: بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك». وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» {ذلك} أي: غض البصر وحفظ الفرج {أزكى} أي: خير {لهم} لما فيه من البعد عن الريبة، سئل الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم} فقال: أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عن المحرمات، ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه خبير بأحوالهم وأفعالهم بقوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الذي لا يخفى عليه شيء {خبير بما يصنعون} بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} عما لا يحل لهن نظره {ويحفظن فروجهن} عما لا يحل لهن فعله بها، روي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحرث إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه»، وقوله تعالى: {ولا يبدين} أي: يظهرن {زينتهن} أي: لغير محرم، والزينة خفية وظاهرة، فالخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط في الأذن والقلائد في العنق، فلا يجوز للمرأة إظهارها، ولايجوز للأجنبي النظر إليها، والمراد من الزينة مواضعها من البدن، وذكر الزينة للمبالغة في الأمر بالصون والستر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها {إلا ما ظهر منها} أي: من الزينة الظاهرة، واختلف أهل العلم في هذه الزينة التي استثناها الله تعالى فقال سعيد بن جبير وجماعة: هي الوجه والكفان، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هي الثياب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة، يجوز للأجنبي النظر إليها إن لم يخفِ فتنة في أحد وجهين وعليه الأكثر.وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة في الصلاة وسائر بدنها عورة فيها، ولأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وخاصة الفقيرات، والوجه الثاني يحرم؛ لأنه محل الفتنة ورجح حسمًا للباب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أي: يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع، فإن جيوبهن كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهن حتى تغطيها، ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية لها باسم ما يليها ويلابسها، ومنه قولهم: ناصح الجيب بالنون والصاد أي: سليم الصدر، وقولك: ضربت بخمارها على جيبها كقولك: ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يرحم الله تعالى نساء المهاجرات لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها، والمرط كساء من صوف أو خز أو كتان، وقيل: هو الإزار، وقيل: هو الدرع.وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وعاصم بضم الجيم، والباقون بكسرها، وكرر قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له أي: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين {إلا لبعولتهن} أي: فإنهم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ولو الدبر ولكنه يكره، وقال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار عنهن إلا لأزواجهن {أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن} فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الخفية ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة، وإنما سومح في الزينة الخفية لأولئك المذكورين في الآية للحاجة المضطرّة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة الفتنة من جهتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك {أو نسائهن} أي: المؤمنات، فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، فلا يجوز للمسلمة أن تتجرّد من ثيابها عند النساء الكافرات؛ لأنهن أجنبيات عن الدين فكن كالرجال الأجانب، لكن يجوز أن ترى الكافرة منها ما يبدو عند المهنة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمامات مع المسلمات، وقيل: النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف.تنبيه: العورة على أربعة أقسام؛ عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة، أما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه ما عدا ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وأما المرأة مع الرجل أو الرجل مع المرأة، فلا ينظر أحدهما من الآخر شيئًا، وقيل: يجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجهها وكفيها إذا أمن الفتنة ولم تكن شهوة، وقيل: يجوز لها أن تنظر منه ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز لمن أراد أن يخطب حرة أن ينظر وجهها وكفيها، وهي تنظر منه إذا أرادت أن تتزوج به ما عدا ما بين السرة والركبة، وإن أراد أن يتزوج بأمة جاز أن ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم أن ينظر بشهوة، ويحرم النظر بشهوة لكل منظور إليه إلا لمن أرد أن يتزوج بها وإلا حليلته ويباح النظر من الأجنبي لمعاملة وشهادة حتى يجوز النظر إلى الفرج للشهادة على الزنا والولادة، وإلى الثدي للشهادة على الرضاع وتعليم ومداواة بقدر الحاجة.وكل ما حرم نظره متصلًا حرم نظره منفصلًا كشعر عانة من رجل أو قلامة ظفر من أجنبية، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش للخبر المتقدم، ويجب التفريق بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته في المضجع إذا كانا عاريين، وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لخبر: «ما من مسلمين يلتقيان ويتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا».وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص، والمعانقة والتقبيل في الرأس للنهي عن ذلك إلا لقادم من سفر أو تباعد عهد، ويسن تقبيل الطفل ولو لغير أبويه شفقة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، ويسن تقبيل يد الحي لصلاح أو علم أو زهد أو نحو ذلك، ويكره لغني أو وجاهة أو نحو ذلك، وقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهنّ} يعم الإماء والعبيد، فيحل نظر العبد العفيف غير المبعض والمشترك والمكاتب إلى سيدته العفيفة لما روى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم وما تلقى قال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».
|